عام 1995 في متنزه يلوستون الوطني في أمريكا حدث شيء يبدو غير مهم ولكنه غير النظام البيئي في المنتزه بالكامل، حيث قررت الحكومة الأمريكية بالسماح لإدخال 14 ذئبًا كنديًا إلى داخل المنتزه، قد يبدو الأمر أن الذئاب ستخلق حالة من الفوضى والتهام الفرائس بمجرد إدخالها،
لكن الغريب أن هذه الذئاب كانت السبب في توفير مبلغ بلغ قيمته 94 مليار دولار !، حيث تمكنت هذه الذئاب من تحقيق تحول شامل للنظام البيئي بأكمله، فكيف استطاعت هذه الذئاب فعل هذا؟
في أوائل القرن العشرين كان يتم معاملة الذئاب الأمريكية أسوء معاملة لم ترحب البشر بوجودها إطلاقًا وترى أنها تهدد مزارعهم باستمرار، ولذلك قرروا التخلص من جميع الذئاب الموجودة.
فقد تم تعيين قتلة محترفين لاصطياد الذئاب ليلًا ونهارًا، ومع حلول عام 1926 قد تم الانتهاء من قتل أخر مجموعة متبقية من الذئاب داخل منتزه يلوستون الوطني، وأحتفل السكان المحليين ببداية عصر جديد خالي من الذئاب.
ففي ظل غياب الذئاب تضاعفت أعداد حيوان الأيل (Deer) بشكلٍ ملحوظ، حيث يعد حيوان الأيل أحد فصائل الغزلان المنتشرة هناك بكثرة ومع بداية القرن العشرين وصل تعدادها 19,000 ألف حيوان في الجزء الشمالي من المنتزه فقط.
فقد تحولت هذه الأعداد الكبيرة من الأيايل إلى ماكينات جزازة العشب التهمت جميع الأعشاب والأشجار من أشجار الحور والرجراج والصفصاف اختفت جميعها بالكامل.
يذكُر العلماء أن هذه الأشجار والأعشاب لم يكن يكتمل نموها ويرجع ذلك بسبب حيوانات الأيل فقد كانت تلتهمها بمجرد ظهورها من باطن التربة، وهذا ما جعل النظام البيئي للمنتزه ينهار بالكامل.
ومن هنا أدركت الحكومة أن وجود الذئاب كان ضروريا جدًا لاستمرار التوازن البيئي داخل المنتزه، فما هو الحل لهذا المشكلة؟ هل إعادة الذئاب مرة آخرى؟
مربيين المواشي بلا استثناء اعترضوا جميعهم على قرار إدخال الذئاب مرةً ثانية للمنتزه، موضحين أن عودة الذئاب قد تؤثر بالسلب على أعداد الماشية، وكانوا يروا أن الذئاب تؤثر على أعداد حيوانات الأيل التي يصطادونها.
فقد تم إختيار مجموعة الذئاب الكندية تحديدًا نظرًا لتعودها على اصطياد الفرائس نفسها الموجودة داخل متنزه يلوستون، بإلاضافة إلى اختيار عدد 14 ذئبًا من مجموعات مختلفة والتي سوف تخلق تنوع جيني من خلال تكاثر مجموعات الذئاب الموجودة.
في يناير عام 1995 تم التصديق على القرار بجلب الذئاب إلى داخل متنزه يلوستون الوطني، 14 ذئبًا تم تخديرهم ونقلهم داخل صناديق منفصلة، فقد تم حبسها لأسابيع حتي تتأقلم في بيئتها الجديدة ومن ثم تم اطلاق سراحها في المنتزه.
إطلاق الذئاب إلى داخل منتزه يلوستون كان بمثابة بداية عصر جديد من السيطرة والازدهار، كل قطيع من الذئاب بدأ في تكوين شخصية وأسلوب للصيد خاص به، فقد كان هناك مجموعة شهيرة من الذئاب وصل عددها لـ 37 ذئب هذه المجموعة كان قائدها ذئبا يسمّى "The Gentleman” أو “21M” هذا الذئب لم يشتهر نظرًا لقوته وحجمه الضخم فقط.
بل كان نبيلًا في سلوكياته وتصرفاته، لم يقم بقتل أي حيوانًا مهزومًا، وإذا قُتل أحد أفراد مجموعته كان يعتني بصغاره، بالإضافة إلى بقائه مع شريكة واحدة فقط طوال فترة حياته، فقد حزن وامتنع عن الطعام لفترة بعد وفاتها.
بعد فترة قصيرة تمكنت الذئاب من تغيير ما حولها تمامًا، حيث أخذت تنخفض أعداد حيوان الأيل بشكلٍ ملحوظ، والأهم من إنخفاض أعدادهم هو تغيير سلوكهم خوفًا من الذئاب.
فقد أصبحوا يسيرون في حركة مستمرة والتجنب بجانب الوديان والأنهار، والغريب أن هذه السلوكيات أدت إلى إزدهار الأعشاب والأشجار مرةً آخرى، وعادة أشجار الحور والرجراج والصفصاف تزدهر على ضفاف الأنهار.
والذي بدورها تمنع تثبيت ضفاف الأنهار ومنعها من التآكل، وبالتالي أصبحت مسارات الأنهار واضحة وأقل عشوائية وأكثر استقرارًا.
ففي عام 1955 لم يكن يوجد إلا مستعمرة واحدة فقط للقنادس في المنتزه، لكن أصبحت أعدادهم حاليًا كبيرة جدًا، فقد كان لظهور القنادس دورًا كبيرًا مؤثرا داخل المنتزه، ليلًا ونهارًا يقومون بدور المهندسين في الحياة البرية.
كل مجموعة من القنادس أخذت تنشأ سدود بعرض الأنهار والتي ساعدت على تنقية المياه والاحتفاظ بها خلال فترات الجفاف والذي أدى إلى زيادة نمو أعداد الضفادع والأسماك والطيور.
اكتشف العلماء أيضا أن الذئاب كان لهم تأثير على "بركان يلوستون" فخلال الفترة التي لم تكن هناك ذئاب كانت حيوانات الأيل تضغط على التربة بشكلٍ ملحوظ خلال تواجدهم الدائم في أماكن محددة مما أدت إلى انتشار الحرارة في باطن الأرض وبالتالي أدت إلى إثارة البركان.
عندما بدأت العلماء في حساب الفوائد الاقتصادية للتغيرات التي سببتها الذئاب تمكنوا من ملاحظة أمورًا لم ينتبه لها أحدًا من قبل ألا وهي السياحة، فمشاهدة الذئاب وحدها تعود بعائد مادي كبير على الحديقة والذي يبلغ قيمته 35,000,000 مليون دولار سنويًا.
ثاني أهم فائدة اقتصادية تتمثل في تأثير الغابات المتعافية، الأشجار الكثيرة في يلوستون أدت إلى التخفيف من أثر التغيرات المناخية والتي تعتبر فائدة اقتصادية تساوي ملايين الدولارات.
وفرت الذئاب أيضًا الكثير من الأموال المصروفة على صيانة الطرق والتي كانت تتمثل في إصلاح تآكل ضفاف الأنهار والتي بدورها تمنع تسرب المياه إلى الطرق.
وعلى الرغم من خوف المزارعين في البداية من إدخال الذئاب للمنتزه الا أنهم مؤخرا أصبحوا يطالبون بزيادة أعدادهم، إدخال الذئاب داخل المنتزه يحمى الحيوانات من الإصابة بالأمراض وهذا من خلال اصطيادهم للحيوانات المريضة وأكلها باستمرار.
في النهاية، من الممكن أن يكون الدرس المستفاد من موضوعنا ليس عن الذئاب تحديدًا ولكنه عن تدخل الإنسان في الطبيعة، الطبيعة التي خلقها الله سبحانه وتعالى بتوازن رهيب وتعمل بطرق معقدة إلى تفاصيل معقدة لا يستوعبها العقل البشري، كل حيوان موجود له دور أساسي في النظام البيئي لا يمكن لحيوان آخر أن يحل محله.
فقد أصبحت اليوم تقدر أعداد الذئاب في منتزه يلوستون بـ 528 فرد تقريبًا، هذه الذئاب تجذب نصف مليون زائر للحديقة سنويًا، وهذا أدي إلى ازدهار المتنزه بشكل كامل.